حتى لا يفقد أبناؤُنا لغتَهم في المهجر

اللغة العربية لغةٌ أصيلةٌ جميلةٌ كريمةٌ، تشرفت بأنها لغة القرآن الكريم، فحريٌّ بنا أن نتعلمَها ونعلمَها لأطفالنا. واللغة التي حفظها القرآن عبر العصور، وأثبتت مراراً قدرتَها على مواكبة العلم والحداثة، لَهِيَ من أهم ضمانات مستقبل الأمة وتماسك أبنائها. إنَّ ما سلفَ ذِكرُهُ يضعنا أمام ضرورة تعليم لغتنا لأطفالنا الذين اضطرتهم الظروف إلى الإقامة في بلادٍ أجنبية.

لا يخفى على أحد أن مجموعة التغيرات السياسية والاقتصادية الكبرى التي حاقت بالمنطقة العربية خلال السنوات العشر الأخيرة قد كان لها بالغ الأثر على المجتمعات العربية مما اضطر الكثير من العرب للهجرة إلى عددٍ من الدول الأجنبية وتأتي في مقدمتها دول الاتحاد الأوربي. لقد بدأ بالظهور مؤخراً جيلٌ عربيٌّ جديدٌ نشأ في بلاد المهجر، ومن المؤسف أن هذا الجيل يلاقي صعوبةً بالغةً في تعلم اللغة العربية ضمن الوسط الأجنبي الذي يحيط به. إن الأعداد الضخمة من العرب الذين تركوا بلادهم إلى بلاد المهجر قد ظهرت لديهم مجموعةٌ من الضرورات لم تكن سابقاً في حسبانهم، وتأتي على رأسِها ضرورةُ تعليم الأبناء لغتَهم الأم، لما يحمله ذلك من قيمٍ قوميةٍ ودينيةٍ، أو لمجرد الحفاظ على أصالة الجيل الجديد وربطِه بعادات وتقاليد وقيم آبائه وأجداده. هذا من أهم ما يشغل بال عددٍ هائلٍ من الأسر العربية في بلاد المهجر، خصوصاً في ظل صعوبة مهمة تعليم الأطفال لغتَهم الأم، وتزداد الصعوبة كلما تأخرنا في إنجاز تلك المهمة.

لقد استنفرت جهاتٌ عديدةٌ للتصدي لموضوع  تعليم اللغة العربية للأطفال العرب في المهجر، ومن تلك الجهات مساجد وجمعياتٌ ومراكز ومؤسساتٌ ومدارس أُنشِئَت حديثاً لهذا الغرض. من هنا يأتي السؤال: لماذا نعلم أطفالَنا اللغة العربية في بلاد المهجر؟

يتمثل الجواب ببساطةً في أنَّ إهمالَ تعليم اللغة العربية للجيل الجديد سيجعل الجيل الثالث لا يأبه بها مطلقاً، مما سيُبعِدُه كثيراً عن جذوره وتاريخه فتضيعُ هويته العربية تماماً، والأمثلة في هذا السياق موجودةٌ بكثرةٍ على أرض الواقع.

مجمل القول أننا نتعلم اللغة العربية لأنها جزءٌ من هويتنا القومية ولأنها لغة ديننا كما ذَكَرْتُ في بداية حديثي. كذلك نعلم اللغة العربية لأطفالنا لكي يتحاوروا مع الأهل والأقارب وجهاً لوجهٍ أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولكي يتمكنوا من قراءة الكتب والصحف العربية ومتابعة محطات الإذاعة والتلفاز الناطقة باللغة العربية، وربما قُدِّرَ لأطفالنا يوماً أن يعودوا إلى بلدانهم، فإن لم يكونوا على درايةٍ باللغة العربية فسيعيشون حينها غربةً جديدةً على أرض الوطن. نعلمهم اللغة أيضاً من أجل زيادة ثقافتهم ومعرفتهم ولكي نرفع عن كاهلنا شيئاً من المسؤولية أمام أبنائنا ووجداننا وتاريخنا. أما المسألة الأشد أهميةً في هذا السياق فهي ضرورة تعليمهم اللغة العربية لكي نعطي الدور الأكبر والأهم في التربية للوالِدَين، فالطفل ينشأ ضمن المؤسسة الاجتماعية التربوية الأولى، ألا وهي الأسرة، وفيها يتعلم أولى أبجديات الحياة.

لابد أن يكون الأهل على مستوى من الوعي والدراية بأهمية تعليم أطفالهم اللغةً العربية، وذلك من خلال تبادل الحديث مع الأطفال بالعربية منذ نعومة أظفارهم، وتعويدهم على استماع القرآن الكريم، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الاستماع إلى القرآن الكريم يزيد حبَّ اللغة العربية ويساعد على توسيع المدارك العقلية لدى الطفل. كما يُحَبَّذُ تنسيب الأطفال إلى مدارس خاصةٍ لتعليم اللغة العربية، وقد انتشر مؤخراً تعليم اللغة العربية عبر مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي فأعطى نتائج مجدية، وذلك من خلال وضع برنامجٍ منظمٍ للمدارس، حيث يختار أولياء الأمور الوقت المناسب لأبنائهم لحضور جلسات الدراسة مع متابعتهم خطوةً بخطوة. إن تحديد أهداف عملية تعليم اللغة العربية لأطفالنا في بلاد المهجر يعطينا مفاتيح رائعةً للنجاح، وهذا ما حصل مع أغلبية المدارس التي استطاعت أن تحصد رضا أولياء التلاميذ بما تقدمه من تعليم للغة العربية والتربية الإسلامية بأسلوب منقحٍ ومنفتح على العالم بعيداً عن التعقيدات.

عموماً، لقد كانت تلك جهوداً نبيلةً وإن كانت لا تسلم من الأخطاء ولا يخلو سبيلها من المصاعب سواءً لدى الأهل أو المدارس، وما دمنا نتحدث عن مسؤوليتنا تجاه هذا الجيل من الأطفال وخوفنا عليهم من نسيان اللغة العربية، فلنترك العاطفة قليلاً ولننطلق من فهمٍ علميٍّ واعٍ.

علينا أن نكثِّف جهودَنا من أجل الارتقاء بأساليب تعليم أبنائنا اللغةَ العربية لكي تبقى خالدةً في قلوبهم، فاللغة تاريخٌ وجذورٌ وروح. لا شكَّ أنَّ إتقان لغةٍ يدل على مدى المرونة والتكيف والذكاء الاجتماعي، لكنَّ اللغة تشبه الجينات الوراثية، حيث تنتقل مثلَها وتتطور وتُوَرَّث وتتغير وتكتسب أشكالاً جديدةً، وتتزاوج مع لغاتٍ أخرى، لكنها كذلك قد تختفي من عقول الأطفال وطريقة تفكيرهم، وهذا ما يجب أن يتجنبه الوالدان من خلال تعليم أطفالهم اللغة العربية منذ الصغر، وعموماً فقد لوحظ أن من يتقنون لغاتهم الأم يستطيعون تعلم اللغات الأخرى بسرعة.

أيها الأب في بلاد المغترَب …..

إنًّ ما تحاول إضافتَه من بصمةٍ على حياة طفلك ما هو إلا انعكاسٌ لمخزونك الثقافة والمعرفي، وهذا المخزون يستند إلى أساسٍ متينٍ قَوامهُ كلُّ ما حصلتَ عليه في الحياة من خبرات. اصنع طفلك بنفسك، وحافظ على عروبته وأصالته بمتابعتك له خطوةً بخطوة وبتعليمه لغتَهُ العربية.

أيتها الأم في بلاد المغترَب…..

أنتِ الركيزة الأولى في تربية الطفل، وعليكِ يقع العبء الأكبر في بناء شخصيته من خلال محاورته وزرع محبة لغته الأم فيه. إنَّ من المرعب رؤية أجيالٍ كثيرةٍ في بلاد المهجر قد تكون يوماً عاجزةً عن قراءة الكتب العربية أو فهم التاريخ العربي المجيد على الشكل الصحيح، كما قد يكون من الصعب عليهم التواصل مع أجدادهم وأقاربهم، أو حتى مجرد فهم نكتةٍ محلية بسيطة، ومن المؤكد أنهم لن يقرؤوا القرآن الكريم ولن يفهموه، والأسوأ هو أنَّ كلَّ ذلك قد لا يهمهم أصلاً.

أياً كان المكان الذي غادره المهاجر وتركه خلف ظهره هرباً إلى حياة أفضل، سواءٌ كان وطناً تمزقه الحروب أو ينخر فيه الفساد أو يأكله الفقر، فالمؤكد أن الهرب إلى المستقبل لا يمكن أن يتم بحقائب فارغة. لابد من تأصيل العروبة والعربية في نفوس أطفالنا لأنها جذرهم الضارب في التاريخ، وسلاحهم في وجه الضياع.

شارك:

المزيد من المقالات

ارسل لنا رسالة

WeCreativez WhatsApp Support
فريق تمكين جاهز للإجابة على استفساراتك
السلام عليكم 👋🏻 كيف يمكننا مساعدتك؟